كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
قوله: «إن كنتم مرضى» يمنع من التوضؤ، وأن يكون من إمساس الماء خطر الهلاك أو فساد عضو، وليس المراد به مطلق المرض إجماعا، وقد أطلق اللّه المرض في مواضع من كتابه، وباطنه رخصا مختلفة، والمراد به الأمراض المختلفة، لا نوع واحد من المرض، فقال تعالى في موضع: {وَمَنْ كانَ مَرِيضًا أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
والمراد ما يظهر أثره في منع الصوم.
وقال: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}.
وعنى به نوعا آخر.
وها هنا عنى بالمرض، القروح التي تمنع إيصال الماء إلى الأعضاء، ويخشى منه فساد عضو وهلاك الجملة، أو طول الضنا على ما اختلف العلماء فيه.
ثم قال تعالى: {أَوْ عَلى سَفَرٍ}، بناء على الغالب، ولا يشترط فيه السفر الطويل، بل ما يسمى سفرا، فإن عموم كتاب اللّه تعالى يدل عليه.
وفي اللفظ أيضا خلاف، والفرق بينهما عند من فرق مأخوذ من السنة، وورد في تيمم المجروح أخبار ذكرها الفقهاء في كتبهم، وهي صحيحة، دالة على أنه يتيمم.
قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}. اعلم أولا أنه روي عن عروة، عن عائشة رضي اللّه عنها، أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم، «قبل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ».
وروى إبراهيم التيمي عن عائشة، أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «كان يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ، ربما فعله بي».
وعن شبابة مولى عائشة رضي اللّه عنها قالت: ربما يلقاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وهو خارج إلى الصلاة، فيقبلني ثم يأتي المسجد، فيصلي ولا يتوضأ.
كل ذلك رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق بأسانيده المتصلة في كتاب أحكام القرآن.
وروى بإسناده عن الشعبي قال: قال علي: اللمس الجماع ولكنه كنى عنه.
وروى بإسناد عن عاصم الأحوال، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: الملامسة والمباشرة الجماع.
وروى بإسناده عن عاصم الأحوال، عن بكر بن عبد اللّه قال: قال ابن عباس: لإن اللّه حيي كريم يكنى عما شاء، وإن المباشرة والرفث والتغشي والإفضاء والمسيس عنى به الجماع.
قال: والتغشي قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاها}.
والإفضاء: قوله: {وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ}.
وروى بإسناده عن سعيد بن جبير، قال: كنا على باب ابن عباس واختلفنا في الملامسة باليد، ومن كان عربيا قال الجماع، فخرج ابن عباس فقال: فيم يختصمون؟ قالوا في الملامسة، فمن كان عربيا قال الجماع، ومن كان مولى قال اللمس باليد، فقال: هو من فريق الموالي إن اللّه حكيم يكني ما شاء، فكنى الجماع ملامسة، وكنى الجماع مباشرة.
وأكثر القاضي إسماعيل في هذه الرواية، وأسندها كلها عن الصحابة والتابعين.
واعلم أنه روي في مقابلة ذلك بأسانيد صحيحة عن عبد اللّه بن عمر أنه قال: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، ومنها الوضوء.
وحديث القبلة منكر:
قال إسماعيل بن اسحق: حديث حبيب بن أبي ثابت في القبلة عرضه على نصر بن علي وعيسى بن شاذان، فعجبوا منه وأنكروه.
وهو مما يعتد به على حبيب بن أبي ثابت، ومن يحسن أمره يقول: أراد أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، فغلط بهذا، فهذا غاية ما قاله:
والذي يحمل الملامسة على الجماع يقول: إن اللّه تعالى ذكر الأحداث كلها بألفاظ هي كناية، فإنه ذكر الغائط وهو كناية، فيظهر أن يكون هذا أيضا كناية عن الجماع.
وهذا يجاب عنه بأن الغائط كناية مشهورة غالبة في عرف الاستعمال حتى لا يعرف من المتعارف سواه، والكناية المشهورة في الجنابة الجماع، فالجماع كناية عن اللفظ الأصلي الذي يستحي عن ذكره، مثل الغائط كناية عن الفضلة المستقذرة، فاللّه تعالى لم يكن عن سبب الجنابة باللفظ الأصلي الموضوع للكناية، وإنما ذكر الملامسة، وما اشتهر في العرف أن يكنى بها عن سبب الجنابة، فلو أراد الكناية، لذكر اللفظ الموضوع للكناية، وهذا بين ظاهر لا غبار عليه.
ومن وجه آخر: وهو أنه ذكر الغائط وهو سبب الوضوء دون الغسل، فيظهر أن يكون قرينه سبب الوضوء، لأنه تعالى أفرد الجنابة فقال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}.
وذكر في موضع: «فاطهروا» وهو يعني الغسل.
والمخالف يقول: ذكر اللّه تعالى الجنابة ولم يذكر سببها، ثم ذكر بعد ذلك سبب الحدث، وهو المجيء من الغائط، فيشبه أن يكون قد ذكر سبب الجنابة، والسبب الأصلي في الحدث خروج الغائط، والأصلي في الجنابة الجماع، فيشبه أن يكون قد جمع اللّه بينهما.
ومن وجه آخر، وهو أن اللّه تعالى وتقدس، قد بين حكم طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء، فيشبه أن يتبين طهارتهما من عدمه، ولا يكون ذلك إلا بحمل الملامسة على الجنابة، ليكون قد بين أحوالهما عند عدم الماء ووجوده، فأما عند وجوده، فهو أنه ذكر السكر الناقض للطهارة والجنابة، ثم ذكر عند عدم الماء حكم المحدث، فيشبه أن يكون قد ذكر حكم الجنب أيضا.
هذا ما ذكروه وهو ضعيف جدا، فإن اللّه تعالى ذكر حكم السكران لا لإيجاب الطهارة، ولكن للمنع من دخول المسجد، كما ذكرناه، وذكر الجنب على هذا الوجه، فلم يكن فيه تعرض للطهارتين، إذ لم يذكر ما يحتاج فيه إلى الطهارتين، فإن دخول المسجد لا يحتاج فيه إلى الطهارتين، إنما يحتاج فيه إلى إحداهما، فلما فرغ من بيان دخول المسجد قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
تعرض للتيمم في حق المحدث، لبيان حكم طهارته بعد الفراغ من أمر المسجد، فلم يكن الحكم الثاني متعلقا بالأول.
والدليل على ذلك، اختلاف أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في تيمم الجنب.
فقال بعضهم: لا يصلي ولا يتيمم حتى يجد الماء، لأن التيمم إنما ذكره اللّه تعالى مع ما يكون منه الوضوء، ولم يذكر في موضع الجنابة.
وذهب قوم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، أن الجنب يتيمم للرواية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولهم أن يقولوا: يجوز أن يكون ذلك في القرآن ولكنه يستدرك بالاجتهاد والنظر، مثل ما بينا وجهه، وليس كل ما في القرآن يكون جليا يدركه كل واحد، ولذلك لم يفهم كثير من الناس أن الجنب يصح صومه إذا أصبح جنبا، حتى احتج ابن عباس بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
فإباحة المباشرة إلى الصبح تقتضي وقوع الغسل بعد الصبح، وهذا لم يفهمه غيره، وهو في القرآن تحقيقا.
واستدل بالقرآن في أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، إلى غير ذلك من احتجاجات غامضة بالقرآن، فيجوز أن يكون هذا أيضا في القرآن ولكنه لا يعرف قبل اعمال الفكر وإجالة الاجتهاد، وهذا بيّن.
وبالجملة، هذا أقرب من أن يقال: إن اللّه تعالى ذكر طهارة الجنب والمحدث عند وجود الماء، ثم يذكر طهارة المحدث عند عدمه ولا يذكر طهارة الجنب، مع أن الإشكال في تيمم الجنب أعظم، فإن فيه تسوية بين المحدث والجنب في الطهارة عند عدم الماء، مع افتراقهما عند وجودة.
وقد ذكر محمد بن مسلمة في الآية التي تقارب هذه في سورة المائدة تقديما وتأخيرا، يقتضي اشتمال كتاب اللّه تعالى على تيمم الجنب.
وإذا قررنا ذلك زال هذا الخيال.
فقال محمد بن مسلمة قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، الآية، فإنما نسقها وسياقتها فيما يرى، واللّه أعلم: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من نوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، إلى قوله: إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، يعني بالماء.
وقد فسره في موضع آخر: حتى تغتسلوا، وإن كنتم مرضى أو على سفر، ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا، ليكون ذاكرا للطهارتين عند عدم الماء ووجوده، وفي القرآن تأخير وتقديم في قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا}.
وقال اللّه تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} فعلى هذا، لولا فضل اللّه عليهم لا تبعوا الشيطان إلا قليلا، يرجع إلى ما قال قبلها مما أمرهم أن يردوه إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم وأخبرهم أنه يعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، فكان الاستثناء إلى هاهنا.
ويكثر في القرآن التقديم والتأخير في النسق.
وروى مالك عن زيد بن أسلم، مما دل على التقديم والتأخير فقال:
قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: معناه من المضاجع، فالنوم بسبب الحدث، والغائط وملامسة النساء: سببان آخران للوضوء، مثل القيام من المضاجع، فهذه أسباب ثلاثة.
وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ}، نسق الوجه واليدين، ومنصوب على ما تقدم من الفعل الواقع عليه في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فأضمر ذلك، فقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، له موجب آخر غير المذكور، فلا يجوز أن يذكر غسل الوجه واليدين موجبا للغائط المذكور بعده، فليكن الموجب مقدما على الموجب، وهذا بين، ولأنا لو لم نقدر هذا، عددنا السفر والمرض حدثا، والغائط ولمس النساء، وليس المرض والسفر حدثا، ولا هما من أسباب الحدث.
الاعتراض عليه أن المخالف يقول: لا يمكن أن تحمل الآية على وجه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير، فإنه تعالى قال: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} محدثين، من غير أن يذكر سبب الحدث، ذكر الطهارة الصغرى، ثم قال مطلقا: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، من غير أن يكون ذاكرا لسبب الجنابة، ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}، فذكر السبب بعد ذكر المسبب، وأراد أن يتعرض للسببين الأصليين اللذين يحصل بهما الحدثان غالبا، فقال: {أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}.
والسبب الأصلي للجنابة الجماع، والحدث خروج الخارج من السبيلين والنوم وزوال العقل حدث، بناء على توهم خروج الخارج، فرجع إليه، وفي حق الرجل، السبب الأصلي الجماع، وخروج المنى ملحق به، فهذا لا يحتاج إلى تقديم وتأخير، بل يكون الكتاب مبينا حكم الطهارتين عند وجوب السبب المطلق، ومبينا تفصيل السببين على الوجه الأصلي، وهذا حسن بين.
ويدل على أنه لا حاجة إلى التقديم والتأخير، أنه إذا أمكن التقديم والتأخير في آية الطهارة المذكورة في سورة المائدة، فلا يمكن ذلك في قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا}.
ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
وليس الذي تقدم هاهنا مما سن به نسق الخطاب في التقديم والتأخير، ولأجل ذلك روى الأعمش عن أبي وائل، قال: كنت جالسا مع أبي موسى وعبد اللّه بن مسعود فقال أبو موسى: أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا، يتيمم ثم يصلي؟
فقال عبد اللّه: لا يتيمم، وإن لم يجد الماء شهرا، ثم ذكر له حديث عمار فرجع عنه، وذكر أنه لم يرجع، وقال: إن عمر لم يقنعه قول عمار، وذكر أنه لو رخصنا لهم في ذلك، استثقلوا الاغتسال عند وجود الماء وقنعوا بالتيمم.